يعتبر تقليد الأطفال لتصرفات الكبار مرحلة طبيعية في رحلة نموهم وتكوين شخصياتهم. فالطفل عندما يراقب من حوله، يحاول أن يتعلم ويكتسب مهارات الحياة من خلال تقليد الأشخاص الذين يراهم رموز قوة أو قدوة في حياته، سواء كان ذلك داخل الأسرة أو في المجتمع. لكن مع أهمية هذا السلوك الطبيعي في تربية الطفل وبناء شخصيته، قد تظهر بعض المشكلات إذا يبدأ الطفل في تقليد تصرفات غير مناسبة أو سلوكيات سلبية. وهنا تبدأ مسؤولية الأسرة في التوجيه الذكي، وتحويل التقليد من مصدر قلق إلى وسيلة فعالة في التربية الإيجابية. وبهذا المقال سنستعرض كيفية التعامل مع الطفل الذي يقلد تصرفات الكبار.
لماذا يقلد الطفل تصرفات الكبار؟
يبدأ الطفل في تقليد الكبار بدافع الفضول الفطري الذي يجعله يرغب في استكشاف كل ما يدور حوله. كما أن الطفل يسعى دائماً إلى تقليد الأشخاص الذين يحبهم أو يعجب بهم، خاصة إذا كان يرى فيهم القوة أو الذكاء أو القدرة على التحكم في الأمور. وتزداد رغبة الطفل في التقليد عندما يشعر أنه بذلك سينال الاهتمام أو سيحظى بمكانة أكبر في أسرته. وغالباً لا يدرك الطفل أن بعض التصرفات التي يقلدها غير مناسبة لعمره، لأنه يفتقر إلى القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ في هذه المرحلة المبكرة من حياته.
أبرز التصرفات التي يقلدها الطفل من الكبار
- يبدأ الطفل في مراحل نموه الأولى بتقليد كل ما يراه في محيطه، سواء داخل المنزل أو خارجه. ومن أكثر التصرفات التي يلاحظها الطفل ويحاول تكرارها تلك المرتبطة بالحياة اليومية للكبار. فقد يقلد الطفل نبرة صوت مرتفعة رآها من أحد والديه أثناء الغضب، أو يردد كلمات غير لائقة سمعها في موقف معين دون أن يدرك معناها الحقيقي. كما ينجذب الطفل إلى تقليد طريقة استخدام الهاتف لساعات طويلة، معتقداً أن هذه السلوكيات جزء من عالم الكبار الذي يتمنى أن ينتمي إليه.
- وقد يلاحظ الوالدين أن الطفل يحاول تقليد الحركات الجسدية المرتبطة بالكبار، مثل التدخين الوهمي، أو طريقة الجلوس الخاصة بالوالد، أو حتى وضع المكياج تقليداً لوالدته. هذه التصرفات لا تعبر عن سوء سلوك بقدر ما تعبر عن مرحلة فضول ورغبة في الاستكشاف وتقمص الأدوار.
- ولا يقتصر التقليد على التصرفات الظاهرة فقط، بل يمتد أحياناً إلى طريقة الحوار، وأسلوب التعامل مع الآخرين، وردود الفعل المختلفة أثناء المواقف اليومية. فكل كلمة تقال أمام الطفل، وكل سلوك يمارس أمامه، يتحول بسرعة إلى نموذج جاهز يقلده في لحظات اللعب أو التفاعل مع من حوله.
مواقف يومية توضّح كيفية توجيه الطفل حين تقليده لسلوك الكبار
- في كثير من البيوت الخليجية والعربية، تتكرر مشاهد يومية يظهر فيها الأطفال وهم يقلدون تصرفات الكبار دون وعي. من ذلك أن يُمسك الطفل الهاتف ويتحدث بصوت مرتفع، مقلداً والده أثناء مكالمة عمل أو حديث جاد. مثل هذه الحالة يجب ألا تُقابل بالتوبيخ أو السخرية، بل تُعد فرصة لتعليم الطفل أهمية خفض الصوت داخل المنزل، واحترام الآخرين وعدم مقاطعتهم، مع ضرورة أن يكون الوالد نفسه قدوة في طريقة تواصله وسلوكياته اللفظية أمام أطفاله.
- وقد تحاول الطفلة تقليد والدتها أثناء التزيّن، فتستخدم أدوات المكياج وتجلس أمام المرآة مقلدة حركات الكبار في مظهرهم. هذا السلوك لا ينبغي أن يُرفض تمامًا ولا أن يُشجّع بشكل عشوائي، بل الأفضل أن يتم احتواؤه بلغة ناعمة توضّح لها أن لكل مرحلة جمالها الخاص، وأن الطفولة بطبيعتها أجمل حين تكون عفوية ونقية. ويمكن في هذا السياق تقديم بدائل مثل أدوات تزيين مخصصة للأطفال، مع التأكيد على فكرة أن الجمال يبدأ من الداخل بالسلوك والأخلاق.
- وفي بعض الحالات، يقلد الطفل شقيقه الأكبر في اللعب العنيف، أو في استخدام كلمات جارحة دون إدراك تأثيرها. فهذه التصرفات يجب أن تُؤخذ على محمل الجد، لا من باب العقوبة، بل من باب التصحيح التربوي الهادئ. ويمكن فتح حوار مع الطفل عن مشاعر الآخرين، وكيف تؤذيهم الكلمات، مع تعليمه أن اللعب الحقيقي لا يكون على حساب سلامة غيره. ومن المهم في هذا السياق أن يكون الأخ الأكبر نفسه شريكاً في التربية، فيشجَّع على أن يكون قدوة إيجابية، ويُطلب منه دعم السلوك اللطيف أمام الصغار.
- ولا يقتصر تقليد الطفل على ما يراه داخل المنزل أو من أفراد أسرته فقط، بل يمتد تأثيره أيضاً إلى المحتوى الذي يشاهده عبر وسائل الإعلام أو الإنترنت. فقد يتابع الطفل مقاطع فيديو أو مشاهد عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، يرى فيها تصرفات ملفتة يقوم بها أشخاص لا يعرفهم، لكنه ينبهر بهم ويبدأ في تقليدهم دون وعي أو إدراك. وهنا تبرز أهمية الرقابة الأبوية الذكية، بعيداً عن المنع القاطع أو الترهيب، بل من خلال المشاركة الفعالة فيما يشاهده الطفل، وتوجيهه نحو المحتوى المناسب الذي يعزز السلوكيات الطيبة والقيم التربوية.
- إذا لاحظ الوالدان أن الطفل يقلد شخصية معينة من أحد البرامج أو مقاطع الفيديو، فمن الأفضل أن يتحاورا معه حول هذه الشخصية، ويسألانه عن سبب إعجابه بها، ثم يستغلان الفرصة لترسيخ القيم الإيجابية أو تصحيح المفاهيم الخاطئة بطريقة مبسطة وهادئة. كما يمكن تشجيع الطفل على مشاهدة قصص تعليمية أو برامج تربوية تقدم له نماذج واقعية جميلة لشخصيات ناجحة تتحلى بالأخلاق والاحترام، حتى يتأثر بها تلقائياً ويجد فيها بديلاً أفضل لما يراه في بعض المحتويات السلبية.
- إن التوجيه الذكي والمتابعة الواعية للمحتوى الإعلامي الذي يتعرض له الطفل أصبحت اليوم ضرورة تربوية في كل بيت، خاصة مع الانفتاح الكبير على العالم الرقمي وسهولة الوصول إلى مختلف أنواع المحتوى. ولا شك أن إشغال وقت الطفل بأنشطة مفيدة في الواقع، مثل القراءة واللعب والأنشطة العائلية، يقلل كثيراً من ارتباطه المفرط بالأجهزة، ويمنحه بيئة واقعية غنية بالتجارب والسلوكيات الإيجابية التي تعزز بناء شخصيته السوية.
كل هذه المواقف اليومية، وإن بدت بسيطة، تشكل أساساً لبناء شخصية الطفل، وتكشف عن مدى تأثره بالبيئة المحيطة. وهي فرص ذهبية للأسرة كي تغرس القيم التي تريد أن تراها في طفلها، بعيداً عن القسوة أو الإهمال، بل من خلال التفاعل الذكي، والنموذج السلوكي الصحيح، والحوار المستمر الذي يفتح للطفل باب الفهم الذاتي والتمييز بين ما يناسبه وما لا يناسبه في هذه المرحلة من العمر.
كيف أتعامل مع الطفل الذي يقلد الكبار بطريقة خاطئة؟
- يتطلب التعامل مع الطفل المقلد أسلوباً تربوياً هادئاً يقوم على الوعي والاحتواء لا على الغضب أو التوبيخ. في البداية يجب أن يكون رد الفعل هادئاً، مع ضرورة مراقبة الموقف وتحليل سبب التقليد. هل هو تقليد عابر أم سلوك متكرر؟ هل يريد الطفل لفت الانتباه أم أنه يقلد شخصاً يحبه؟ بعد فهم السبب، يأتي دور الحوار مع الطفل بلغة بسيطة تشرح له أن بعض السلوكيات التي يقوم بها الكبار لا تناسب عمره، وأنه سيكون أجمل عندما يلتزم بسلوكيات الأطفال التي تعبر عن البراءة والجمال.
- ويفضل أن يتم توجيه الطفل إلى بدائل إيجابية يمكنه تقليدها، مثل المساعدة في ترتيب ألعابه، أو المشاركة في الأنشطة العائلية، أو تقليد سلوكيات لطيفة تليق بمرحلته العمرية. كما أن مشاركة الطفل في اللعب التخيلي الذي يرسخ القيم الإيجابية، من الوسائل الفعالة التي تساعده على تعديل سلوكه دون أن يشعر بالضغط أو القيد.
أهمية القدوة الحسنة في تربية الطفل المقلد
يشكل الوالدان النموذج الأول الذي يقتدي به الطفل في حياته. لذا فإن بناء شخصية الطفل لا يعتمد فقط على النصائح أو التوجيهات، بل يعتمد في الأساس على تصرفات الكبار أمامه. فكل كلمة ينطق بها الأب أو الأم، وكل حركة أو موقف يحدث أمام الطفل، تتحول سريعاً إلى سلوك مكتسب لديه. ومن هنا تزداد أهمية أن يكون الوالدان قدوة حقيقية في الأخلاق والاحترام وطريقة التعامل، لأن الطفل بطبيعته يراقب ويسجل كل شيء بعينيه قبل أن يسمعه بأذنيه.
وسائل تربوية ذكية لعلاج تقليد الطفل السلبي
- يحتاج الطفل إلى بيئة داعمة تشجعه على اكتساب السلوكيات الإيجابية بشكل تلقائي. ومن أهم وسائل العلاج التربوي مشاركة الطفل في الأنشطة الإيجابية التي تنمي مهاراته، مع إبعاده تدريجياً عن السلوكيات السلبية دون تعنيف أو إحراج. كما أن القصص التربوية التي تحمل رسائل هادفة، والبرامج التعليمية المناسبة لمرحلته العمرية، تساعده كثيراً في بناء تصور صحيح عن الحياة والسلوكيات المناسبة له.
- وإذا كان الطفل يتعرض لمحتوى غير مناسب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيجب على الأسرة مراقبة هذا المحتوى وتوجيهه بشكل ذكي نحو البرامج المفيدة التي تعزز القيم والمبادئ الجيدة.
وختاماً، إن تقليد الأطفال للكبار سلوك طبيعي يعبر عن مرحلة من مراحل النمو، لكنه قد يتحول إلى مشكلة إذا لم يجد التوجيه التربوي المناسب. وكلما كان الوالدان أكثر وعياً بمتطلبات هذه المرحلة، وأكثر هدوءاً في التعامل مع تصرفات الطفل، كلما كان أثر التربية أعمق وأبقى. إن بناء شخصية الطفل يبدأ من البيت، وكل كلمة وكل حركة أمامه هي رسالة تربوية تزرع داخله وتبقى معه طويلاً. لذا يجب أن يكون البيت بيئة آمنة مليئة بالحب والاحتواء والقدوة الحسنة، ليكبر الطفل واثقاً من نفسه، قادراً على التمييز بين الصح والخطأ، محصناً ضد السلوكيات السلبية التي قد يراها في مجتمعه.
تعليقات
إرسال تعليق